بدأ ابن باديس إصلاحه سهلا لينا وانتهى صارما ممتنعا على نحو لم يفطن له المستعمر أول الأمر، إنه الرجل السهل الممتنع
ملخص المقال
ليس من القراءة الجديدة للتاريخ أن نحطم النماذج والقدوة من الأبطال والعلماء لهفوة ارتكبوها أو خطأ وقعوا فيه
قبل أن نجيب على هذا التّساؤل يجدر بنا أن نسأل: هل نحن نقرأ التاريخ، ونعيد الماضي لفهم الحاضر، ونعي الحاضر لفهم المستقبل؟ ومع أن الحديث عن قراءة التاريخ وإعادة الماضي بنظرة التجديد والتحقيق يعتبر من البدهيّات، وقد يستغربه من يبحث في العُمران البشريّ وشروط النهضة، ولكنّ بعض الناس ممن لم يرشف من العلم الحقيقيّ غير قشوره، تشمئزُّ نفسه حين يذكر الماضي، ويرى أن الإزراء على تاريخنا والتركيز على العيوب، والتنقّص من شخصيات كبيرة فيه هو من باب (التَّنور) و(العصرنة) التي ينتفش صاحبها، ويظنُّ أنه من هذا المدخل سيشار إليه بالبنان، ويقال عنه: (مثقف).
إنّ الكتابة عن النفس الإنسانيّة وأسرارها في العظماء لا تبطُل في زمن من الأزمان، وهناك خطوط عامة، وصفات ثابتة ومزايا دائمة في الإنسان؛ مما يجعلنا نستفيد من الماضي كما يقرّر مؤرخنا الكبير (ابن خلدون)، وكما لاحظ المؤرخ الألماني ( شبنجلر) حين يقول: "إنّ ثمة تناظرًا غريبًا بين أثينا وباريس، وبين فتوح الإسكندر والاستعمار الأوربي"[1].
إنّ الماضي لا ينقضي بانقضاء زمنه، بل يبقى حيًّا فعّالاً في حياتنا، كما نحمل طفولتنا معنا عندما نصير شبابًا، ونحمل شبابنا عندما نصير كهولاً.
استخدم القرآن قصص الماضين لتربية المسلمين والناس جميعًا، وللتأثير في أصحاب النفوس الخيرة، والتاريخ القديم يُذكر في القرآن باسم (القرون الأولى)، وقد تكون أخبارها غائبة عن الذاكرة الإنسانيّة {قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى * قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لاَ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنْسَى} [طه:51، 52].
"أي أن أحداث التاريخ قد تغيب عن ذاكرة الناس، ولكنّ قواعد التاريخ تظلُّ فاعلة في جماعات البشر"[2].
يقول المؤرخ (بوسيه): "فمن شاء الحكم على المستقبل، فليبدأ باستشارة الماضي"[3].
فالذين يقولون: إن قراءة التاريخ تعود بنا إلى الوراء، أو إنها عملية تعويض وعزاء.. هؤلاء مصابون بـ(ذِهان السهولة) كما يعبر مالك بن نبي، وذلك حين يحاولون حل مشكلة كبيرة بكلمة عابرة أو شعار مرفوع.
لماذا نُطالب بألاَّ نقرأ التاريخ؟ وهل المطلوب أن نُخدع مرات ومرات؟ لماذا لا نقرأ كيف نقض الأسبان المعاهدة التي وقّعوها، وأقسموا عليها ملك غرناطة المسلم الذي غادر عاصمته وسلّمها إلى الأسبان؟ ما الذي جرى بعد ذلك؟ لقد أُجبر المسلمون على التنصير، وبدأت محاكم التفتيش، وقصّتها معروفة. ولماذا لا نقرأ نقض الإنجليز لوعودهم للشّريف حسين بن علي؟ وكانت عاقبته أن نفَوْه إلى جزيرة قبرص، وعاش هناك بقية حياته.
ونقرأ قصة الإنجليز أيضًا بعد فشلهم في السودان، ومقتل القائد البريطاني (جوردون باشا) حين أشاروا على المصريين (والإشارة هنا بمقام الأمر) أن يتخلَّوْا عن السودان، ولم يكن ذلك إلا توطئة لاحتلاله، فجرّدوا جيشًا بقيادتهم وبجنود من المصريين، واحتلوا السودان برجال مصر ومال مصر[4].
استخدم اليهود في العصر الحديث فكرة (الذاكرة الجماعية)، وذلك عندما يتم اختيارُ أحداث قديمة وإعادة صياغتها، وإعطاؤها معنًى سياسيًّا لتكون برنامجًا وطنيًّا ورمزًا للكفاح؛ فهل العودة إلى الماضي حلال لليهود وحرام علينا؟!
وفي الاحتفال بـ(إعلان مبادئ) في حديقة البيت الأبيض في شهر سبتمبر 1993م تكلّم رئيس وزراء العدو الصهيوني إسحاق رابين عن (تاريخ اليهود الطويل من المعاناة والعذاب)، ولكن ياسر عرفات لم يذكر شيئًا عن تاريخ فلسطين وما فيه من الآلام والخسائر، مكتفيًا بترديد: شكرًا.. شكرًا!![5].
لقد عمّق القرآن الكريم الإحساس عند العرب حين قصّ عليهم أخبار الأمم الخالية، وحين وصلهم بالأمم المعاصرة لهم، وحين ذكر لهم سنن النهوض والارتقاء، وسنن القوّة والضّعف والتقدّم والتأخّر، قال تعالى: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} [الرعد: 17]، وقال تعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود: 49]. والسنن تعني أن نفس الأسباب تأتي بالنتائج نفسها في جميع الأوقات ولسائر الشعوب، جاء في الحديث: "ما ظهر في قوم الربا والزنا إلا أحلوا بأنفسهم عقاب الله".
يقول أحد دارسي النفس البشريّة: "وهذا هو السّبب في أن الأُسر والأمم والأجناس التي لم تعرف كيف تميِّز بين الحلال والحرام تتحطم في الكوارث"[6].
نعم، نحن بحاجة لقراءة جديدة للتاريخ، ولكن" لإيجاد حياة قد خرجت من الحياة، ورد ميت في قبر مغلق إلى كتاب مفتوح"[7] -كما عبر شيخ العربية محمود محمد شاكر رحمه الله- نقرؤه لإسقاطه على الحاضر ومعرفة الواقع على حقيقته، ومن منظور التجرُّد والحياد والتحفّظ على أهواء المؤرخين، وإخضاع ما دوّنوه للتّمحيص والتّدقيق.
وهنا لا بد من التنبيه إلى الفرق بين تاريخنا السياسيّ وتاريخنا الحضاريّ العلميّ؛ فرغم التدهور السياسي في بعض الفترات وبعض المناطق، ورغم تفشِّي ظاهرة الاستبداد والتمزق الداخليّ والتفرّق، إلا أن العلوم بشتى فروعها كانت في تقدُّم، ولم ترتبط بظاهرة الانحطاط. وهذا شيء قد لا يوجد عند الأمم الأخرى؛ حيث يرتبط التقدم العلمي بالتقدم السياسي، كما كان في أوربا في عصر النهضة؛ وذلك لأن الأمة الإسلاميّة نشأت بالدين، والدين يحثُّ على طلب العلم، وإنَّ أكثر المدارس في حضارتنا كانت بدعم الأوقاف الخيريّة وبجهود الأفراد والمجتمع.
كما أن تاريخنا السياسي ليس كله تدهورًا، ولكنّ بعض الناس الذين يجهلون حقيقة تاريخنا وفي مجال المقارنة مع الغرب وتاريخه، فإنهم ينظرون إلى التاريخ الأوربي الحديث (كمن ينظر إلى جبل من بعيد فلا يرى إلا القمم العالية)[8]، ولكن عندما ينظر إلى التاريخ الإسلاميّ، فإنّه يسير في داخله فيرى الطّرق الوّعِرة والأخاديد والوديان والقمم (والخط البياني للحضارة الإسلامية كثيرة القمم)، وطريقة الغربيين في تأريخهم للأشخاص هي أنهم لا يتدخلون في خصوصيّات قوادهم، وإنما يرسمون لهم صورًا عظيمة لما قدّموا من خدمات؛ فيأتي تاريخهم وكأنه كله بطولات، بينما نرى المسلمين يهتمون بالناحية الأخلاقيّة والعقديّة للشخص المترجم له، فيكون التفصيل والنقد والجرح والتعديل.
إن الاهتمام بالتاريخ السياسي وتقلبات الدول وتوسعها وانقراضها (كما هو مقرر في مناهج المدارس العربية)، إنما يبعث على القنوط والجهل بتاريخنا الآخر؛ فلماذا لا نبعث التاريخ الحضاريّ، ومكتبتنا مليئة بهذا الجانب؟!
ليس من القراءة الجديدة للتاريخ أن نترك من يعبث بتاريخ هذه الأمة تحت شعار (قراءة جديدة للتاريخ)، ويريد جرَّ التاريخ إلى أغراضه أو حزبه أو مذهبه.. فهناك من يكتب عن ثوريَّة وتقدميّة القرامطة الذين دمّروا وقتلوا حُجّاج بيت الله عند الكعبة، ومن يكتب عن تقدميَّة ثورة الزنج في منتصف القرن الثالث الهجري الذين خرّبوا البصرة ودمّروها، وهناك من يضخِّم بعض الفرق المنحرفة.
وليس من القراءة الجديدة للتاريخ أن نحطِّم النماذج والقدوة من الأبطال والعلماء لهفوة ارتكبوها أو خطأ وقعوا فيه، وإن ما يُنشر ويُذكر في بعض وسائل الإعلام من تشويه صورة أمثال: محمد الفاتح أو صلاح الدين، بل تشويه صورة بعض الصحابة رضوان الله عليهم؛ ما هو إلا حقد شعوبي وخدمة للأعداء، هؤلاء يكرهون كل ما يُحيِي الأمّة من عزَّةٍ أو نخوة، ويكرهون أن يكتب أحدٌ عن عمر وخالد رضي الله عنهما.
فهل هذه قراءة جديدة للتاريخ؟!
د. محمد العبدة
المصدر: موقع الإسلام اليوم.
التعليقات
إرسال تعليقك