سطور من حياة المأمون العباسي الخليفة العالم، سابع خلفاء الدولة العباسية وأشهرهم في العلم، فمن هو المأمون وما أوضاع خلافته ومحنته مع العلماء؟
ملخص المقال
المعتضد بالله وصحوة الخلافة العباسية، حول سيرة الخليفة العباسي المعتضد بالله وأهم الإنجازات الحضارية التي شهدتها الخلافة في عهده
انتعشت الخلافة العباسية بعد تولي الخليفة المعتمد على الله المنصب الرفيع سنة (256 هـ=870م)، وعاد لها ما كانت تتمتَّع به من هيبةٍ وإجلال، وتقديرٍ وتعظيم، وانقضى نفوذ الأتراك الذين عبثوا بالخلفاء، واستبدوا بالحكم دونهم، ولم يعد لهم من الأمر شيء، ولم يكن الخليفة المعتمد هو الذي يقف وراء هذا الانتعاش الذي تشهده الخلافة؛ وإنَّما كان أخوه وولي عهده الموفق طلحة هو باعث هذه الصحوة، وكان قائدًا ماهرًا، وسياسيًّا فذًّا، ذا همَّةٍ عاليةٍ وعزيمةٍ قويَّة، تمكَّن من الإمساك بزمام الأمور، وقيادة الجند، ومحاربة الأعداء، والمرابطة على الثغور، وتعيين الوزراء والأمراء، وكان قضاؤه على ثورة الزنج أعظم إنجازٍ له، وكانت ثورةً عارمةً دامت أكثر من أربعة عشر عامًا، وكادت تعصف بالخلافة.
المعتضد بالله العباسي
توفى الموفق طلحة سنة (278هـ=891 م)، بعد أن أعاد هيبة الخلافة، وثبَّت سلطة الحكومة المركزيَّة، فبايع الخليفة "المعتمد على الله" ابن أخيه "العباس" بولاية العهد الثانية بعد ابنه "المفوض إلى الله"، ولقبه بـ"المعتضد بالله"، وانتقلت إليه سلطات أبيه الموفق، وكان المعتضد بالله مثل أبيه في الحزم والرأي والشجاعة، شارك أباه في حروبه ضدَّ الزنج، وفي أعماله الإدارية، فاكتسب خبرةً واسعة، ونال ثقة الجند وتقديرهم، وطُبع على القيادة وتصريف الأمور؛ ولذلك لم يقنع بولاية العهد الثانية، وتطلَّع أن يكون خليفة بعد المعتمد مباشرةً لا بعد ابنه، وكان الجند في صفِّه، ولم يجد عمُّه المعتمد بُدًّا من الرضوخ لابن أخيه، فبايعه بولاية العهد بعده، وعزل ابنه منها، ولم تَدُم حياة المعتمد طويلًا؛ حيث تُوفِّي بعد أشهرٍ قليلةٍ في (19 من رجب 279 هـ=15 من أكتوبر 892م).
خلافة حازمة
ولما بُويع المعتضد بالخلافة سار على نهج أبيه الموفَّق في الحزم والعزم، وسلك مسلكه في إقامة العدل، وإقرار الأمن، وإشاعة السلام؛ ولذلك كان ينهض على الفور حين تشب فتنةٌ وتشتعل ثورةٌ فيقضي عليها، ويخرج إليها بنفسه، دلالةً على عنايته بها، وإدراكه لخطورتها إذا أهمل في تداركها وقمعها.
وكانت الفترة التي ولي فيها المعتضد الخلافة فترة قلاقل وثورات، ولكن الخليفة اليقظ قضى عليها، ولم يدعها تتفاقم وتزداد اشتعالًا، ومن ثم شهدت الخلافة استقرارًا وهدوءًا، فأخمد ثورة "بني شيبان" بأرض الجزيرة سنة (280هـ=893م)، وكانوا يُهاجمون المدن، ويقتلون الناس، ويسلبون أموالهم، كما قضى سنة (281هـ=894 م) على ثورة "حمدان بن حمدون"، الذي كان يطمح في تأسيس إمارةٍ له، و-أيضًا- استولى على قلعة "ماردين" وتحصَّن بها، وقمع ثورة الخوارج في الموصل، التي تزعَّمها "هارون بن عبد الله الشاري" سنة (283هـ=896م).
ظهور حركة القرامطة
شهدت فترة المعتضد ظهور حركة القرامطة؛ حيث قدم الكوفة سنة (278هـ=891م) رجل يُدعى"حمدان قرمط"، وأقام بها، وتظاهر بالعبادة والزهد، والدعوة إلى إمامٍ من آل البيت، فلقيت دعوته نجاحًا عند أنصار العلويين، وبعد أن وثق من بعضهم بدأ في بثِّ دعوته الغريبة وأفكاره البعيدة عن الإسلام، ثم اشتدَّ خطر هذه الحركة بعد ظهور زعيمها في البحرين "أبي سعيد الجنَّابي" سنة (286 هـ=899م)، واستطاع أن يبسط نفوذه على "البحرين" و"هجر"، وكسب أنصارًا كثيرين، وتحوَّلت البحرين إلى مركز للقرامطة ومعقلًا لنشاطهم، وخرجت منه حملاتهم الحربيَّة لنشر أفكارهم الهدَّامة تحت شعارات برَّاقة، يخدعون بها البسطاء.
ولم ينجح المعتضد في القضاء على هذه الحركة؛ لأنَّه لم يُقدِّر خطورتها حقَّ قدرها، وصرف جهده إلى قمع فتنٍ كانت تبدو لديه أكثر خطورةٍ منها.
ويجدر بالذكر أنَّه ظهر في أيَّامه "ابن حوشب" في بلاد اليمن؛ حيث كان يقوم بنشر الدعوة للمهدى الفاطمي، و"أبو عبد الله الشيعي"، الذي كان يدعو للفاطميين العبيديين في بلاد المغرب، إلى أن تمكن من إقامة دولتهم في المغرب بعد ذلك.
وأيًّا كان الأمر، فإنَّ الخلافة لم تهتز إزاء هذه الفتنة والثورات، واستطاع بحزمه أن يُثبِّت أركان الدولة، وأن يُعيد إليها سلطاتها ونفوذها.
سياسته مع الرعية
يصف المؤرِّخون الخليفة المعتضد بالله بأنَّه كان حازمًا مع قوَّاده، شديد الوطأة عليهم، إذا غضب على واحدٍ منهم أمر بإلقائه في حفرةٍ وردم عليه؛ ولذلك سكنت فتنة الأتراك، ولم يجرؤ واحدٌ منهم على إحداث شغبٍ أو إثارة فتنة، وكان يُسمَّى "السفاح الثاني"؛ لأنَّه جدَّد مُلك بني العباس، مثلما أقام أبو العباس السفاح دولتهم.
ومع هذه القسوة البالغة كان عادلًا مع رعيَّته؛ فقد دفع عنهم الظلم، وأسقط عنهم المكوس والضرائب، وأبطل ديوان المواريث، وكان أصحاب التركات يلقون منه عنتًا، وأمر بردِّ ما يفضل من سهام المواريث على ذوي الأرحام.
وكان لاستقرار الدولة في عهده نتائج إيجابيَّة على الوضع الاقتصادي؛ فعنيت الدولة في عهده بأمور الري، وتسليف الفلاحين الحبوب والحيوانات، وأخَّر موعد استيفاء الخراج.
زواجه من قطر الندى
ارتبط اسم المعتضد بزواجه من "قطر الندى" بنت "خماروية بن أحمد بن طولون"، وكانت العلاقة بين دولة الخلافة والطولونيين في مصر على غير ما يُرام في عهد أحمد بن طولون، وقد حاول ابنه خمارويه أن يفتح صفحةً جديدةً من العلاقات، ويحل الأمن والسلام محلَّ الخصام والحرب، وكان الطرفان يرغبان في ذلك، وزيادةً في توثيق عرى المودة بينهما، تزوَّج الخليفة المعتضد من قطر الندى ابنة خمارويه، وكان جهازها الذي أعدَّه أبوها أسطوريًّا بالغًا في الإسراف إلى حدٍّ يفوق الخيال.
وهنا أدعُ المؤرِّخ الكبير "ابن تغري بردي" يصف جهازها ورحلتها من مصر إلى بغداد؛ حيث يقول: "إنَّه جهَّزها بجهازٍ عظيمٍ يتجاوز الوصف حتى قيل: إنَّه دخل معها في جملة جهازها ألف هاون من الذهب... ولما فرغ خمارويه من جهاز ابنته قطر الندى، أمر فبني لها على رأس كلِّ منزلةٍ تنزل فيها قصرٌ فيما بين مصر وبغداد... وكانوا يسيرون بها سير الطفل في المهد، فكانت إذا وافت المنزلة وجدت قصرًا قد فرش، فيه جميع ما تحتاج إليه، وقد علقت فيه الستور، وأُعِد فيه كلَّ ما يصلح لمثلها، وكانت في سيرها من مصر إلى بغداد على بُعد الشقة كأنَّها في قصر أبيها...".
وكان هذا الإسراف من قبل خمارويه سببًا في إفلاس ماليَّة البلاد، وكانت مصر من أغنى الدول وأكثرها ثراءً، ويبدو أنَّ الخلافة العباسية عندما يئست من إخضاع دولة الطولونيين بالقوَّة لجأت إلى إضعافها بالسياسة، حتى قيل: إنَّ المعتضد أراد بزواجه من قطر الندى أن يُفقر أباها خمارويه في جهازها.
انتقال عاصمة الخلافة إلى بغداد
ظلَّت مدينة "سامرَّاء" عاصمة الخلافة العباسية منذ حوالي سنة (221 هـ=836م) في عهد الخليفة المعتصم بالله، إلى أوائل خلافة المعتضد الذي بنى القصر الحسني ببغداد، وقرَّر نقل العاصمة إلى بغداد، وكان من أثر ذلك أن هجر الناس سامرَّاء، وخربت بعد أن كانت تُضارع بغداد حسنًا وبهاء، وكان بسامرَّاء قبور ستَّة من الخلفاء العباسيين هم: الواثق، والمتوكل، والمنتصر، والمعتز، والمهتدي، والمعتمد.
الحركة العلمية
كان عصر المعتضد يموج بالحركة العلمية، والنشاط الثقافي، الذي لم يتأثَّر بالانقلابات السياسية التي كانت تحدث في حركة الدولة، وكان الازدهار العلمي يمشى قُدمًا إلى الأمام، يموج بالحركة والنشاط، وشهدت فترة المعتضد، وهي امتدادٌ لفترة عمِّه وأبيه، تألَّّق عددٌ كبيرٌ من النابهين في اللغة والأدب والتاريخ والجغرافيا والحديث، يأتي في مقدِّمتهم "الحافظ بن أبي الدنيا" المتوفَّى (281هـ=894م) صاحب "حلية الأولياء"، و"المبرد" اللغوي المشهور المتوفَّى (285هـ=894م) إمام النحاة في عصره، وصاحب كتاب "الأمل"، و"ابن واضح اليعقوبي"، المتوفَّى (292هـ=905م)، وكان من أكابر مؤرِّخي عصره، ونبغ "ثابت بن قرة" الرياضي المشهور، وابن الفقيه الهمداني الجغرافي، وكلاهما قد تُوفي في سنة (287هـ=900م).
ولمع في مجال الشعر كوكبةٌ من أعظم شعراء العربية، مثل: "ابن الرومي"، المتوفَّى سنة (283هـ=896م)، الذي اشتهر بقدرته على توليد المعاني وابتكار الأخيلة الجديدة، و"البحتري" المتوفَّى سنة (284 هـ=897م) صاحب الديباجة الشعرية الرائعة، والموسيقى العذبة الجميلة.
وفاة المعتضد
وفي (22 من ربيع الآخر 289هـ=6 من مارس 902م) تُوفِّي الخليفة المعتضد، بعد أن حكم الدولة تسع سنوات وتسعة أشهر، أعاد إليها هيبتها ومجدها، وخلفه ابنه "علي المكتفي"، ولم يكن مثل أبيه من الحزم والشدة، فدخلت الدولة في مرحلة الضعف والتفكك.
_____________________
من مصادر الدراسة:
- ابن الأثير: الكامل في التاريخ، دار صادر- بيروت، 1399هـ=1979م.
- حسن إبراهيم حسن: تاريخ الإسلام السياسي والديني والثقافي، مكتبة النهضة المصرية – القاهرة، 1949م.
- محمد الخضري: محاضرات تاريخ الأمم الإسلامية (الدولة العباسية)، المكتبة التجارية الكبرى – القاهرة، 1959م.
- حسن أحمد محمود وأحمد إبراهيم الشريف: العالم الإسلامي في العصر العباسي، دار الفكر العربي – القاهرة، 1977م.
- فاروق عمر: العباسيون الأوائل، جامعة بغداد، 1977م.
التعليقات
إرسال تعليقك