إن فقه التمكين والنصر يعني دراسة أنواعه وشروطه وأسبابه ومراحله وأهدافه ومعوقاته ومقوماته.. فما أنواع التمكين؟ وما شروط التمكين؟ وما مراحل التمكين لدين الله في الأرض؟
ملخص المقال
حوار مع المؤرخ الدكتور علي الصلابي حول التاريخ الإسلامي، مؤكدا أنه لن تحدث نهضة للأمة إلا إذا تمايزت الأمور
قال الخبير في التاريخ الإسلامي وتاريخ شمال إفريقيا الليبي الدكتور علي محمد الصلابي: إن الحضارة والثقافة الإسلامية فيها من الفكر الإصلاحي الذي يمكن أن يتعلم منه الآخرون، وإنه لا ينبغي أن نكون منهزمين أمام الصراع مع ما يسمى الطرح الإصلاحي الغربي، مشيرًا إلى أن هناك خلافًا كبيرًا بينهما؛ لأن الفكر الإصلاحي الغربي ينبثق من قيم وعقائد وثقافة فيها شيء نتفق معهم فيه، وأشياء كثيرة نخالفهم فيها في ثقافتنا وعقيدتنا.
وتاليًا نص الحوار الذي أجرته التجديد مع الدكتور علي محمد الصلابي بمقر إقامته بالعاصمة القطرية الدوحة:
** لماذا اخترت التاريخ الإسلامي؟ وما علاقتك به؟
- علاقتي بالتاريخ الإسلامي كانت في المعتقل بليبيا حيث احتككت بسياسيين ومثقفين كبار، واكتشفت بالنسبة لنـا نحن الشباب أن هناك حلقات مفقودة، خصوصًا فيما يتعلق بتاريخ البلاد وما يتعلق بشخصية محمد علي السنوسي وأحمد الشريف وعمر المختـار ومحمد المهدي. كما وجدت أن السيرة النبوية تحتاج إلى دراسة، خصوصًا فيما يتعلق بالسنن التي تعامل معها النبي r.
كما أن اهتمامي بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم وأنواعه وأسبابه وشروطه ومراحله وأهدافه، دفعني للرجوع إلى المادة التاريخية لاستخلاص فقه التمكين في القرآن الكريم وعند النبي r وكيف اهتم بالجماعة؟ كيف واكب المجتمع؟ كيف أقام الدولة؟ كيف دخل في صراع مع اليهود مع النصارى؟ كيف صنع الحضارة؟ وبعد ذلك اهتممت بعصر الخلافة الراشدة وكيف دخلت فيه أيادٍ خبيثة في تحريف رواياته التاريخية والموضوعية وشوهت شخصياته، خصوصًا في بعض المحطات الرئيسية في التاريخ مثل سقيفة بني ساعدة بعد وفاة النبي r، وغير ذلك من الأمور.
** لماذا تناولت الخلافة الراشدة بشكل مفصل في كتاباتك؟ وعن أي جانب ركزت؟
- اهتممت في هذا الجانب بالفقه السياسي وما يتعلق بحركة الفتوحات في هذا العهد والنوازل التي حدثت في عهد أبو بكر وعمر وعثمان وعلي y، وكيف تعامل معهما الخلفاء الراشدون؛ لأن الرسول r أوصى باتباع سنتهم أيضًا. ثم إن الرسول r تحدث عن عودة الخلافة الراشدة بعد المُلك الجبري والعضوض، فلا بد من فهم ما هي الخلافة الراشدة؟ ما هي معانيها وصفاتها؟ ما هي طبيعتها؟ ففقهها في حد ذاته خطوة نحو الخلافة الراشدة، ولا بد أن يكون هذا الفقه أو ثقافة الخلافة الراشدة سائدة بين الناس. من هذا المنطلق اهتممت بعهد الخلافة الراشدة، واكتشفت أن هناك خليفـة خامسًا هو الحسن بن علي رضي الله عنهما.
وسيدنا الحسن قدم للأمة مشروعًا إسلاميًّا إصلاحيًّا ضخمًا هائلاً، وقاد مشروعًا تُوج بوحدة الأمة وانطلاق حركة الفتوحات من جديد. ومن خلال مشروع الحسن الإصلاحي يمكن فهم قول الرسول r: "إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين فئتين من المسلمين عظيمتين". ومن معاني السيادة في شخصية الحسن t حرصه على وحدة الصف وحقن الدماء، وعلى انطلاق حركة الفتوحات.
** أي من المناهج تقيدت بها في كتابة التاريخ الإسلامي؟
- لم أتقيد بالمناهج المعروفة عند المؤرخين كالاهتمام بالجانب السردي أو بالمادة التاريخية المحضة، بالنسبة لي التاريخ وسيلة إلى الدعوة لله I. والمادة التاريخية التي أعتمدها أدونها بمنهج قريب من منهج القرآن الكريم في سرد قصص الأنبياء.
هذه القصص تركز على صفات الأنبياء وعلى مناهجهم وعقائدهم وعلى خطورة الشرك وأهمية الإيمان بالله واليوم الآخر. وعندما أتحدث عن الشخصيات الإسلامية مثل أبو بكر وعمر وعثمان y تكون الفكرة المركزية عندي هي كيف فهم أحدهم الإسلام؟ وكيف عاش به في حياته؟ وما هي علاقته بالقرآن؟ أي نظرته إلى الله وإلى الكون والحياة وإلى النبي r، وبالتالي لا أهتم بالجانب التاريخي المحض فقط وإنما أهتم بالجانب العقائدي وأثره أيضًا، وباستخراج ما يسمى بالدروس والعبر. لقـد كان في قصصهم عبرة، العبرة هي الهدف من دراسة التاريخ، ومحاولة التركيز على السنن؛ لأن السنن تتكرر، وكيف نتعامل معها.
** يتهمك البعض بأنك تطنب في تناول التاريخ وتحشر العقيدة في كل شيء؟
- أنا عندي قناعة هي أن الجمهور الذي يقرأ التاريخ أوسع من الجمهور الذي يقرأ كتب العقائد أو كتب التفسير أو الحديث أو الفقه؛ لأن التاريخ يمكن أن يقرأه السياسي والمفكر ومخرج المسلسلات بمعنى يقرؤه جمهور عريض وضخم، وبالتالي أسمح لنفسي من خلال المادة التاريخية أن أوصل شيئًا من العقائد والأخلاق والأحكام الشرعية تكون لها علاقة بالمادة التاريخية، فهذه وسيلة دعوية. كما أنني أضع النقاط على الحروف، ولدي نوع من الصراحة في مسألة الخلط في الإسلام حيث يدعي الكل وصلاً بالإسلام، هذه قضية غير صحيحة في وجهة نظري.
غير أنني أتقيد بالأدب ولا أشتم ولا أسب، لكن في نفس الوقت أناقش القضايا مناقشة موضوعية تبحث عن الحقيقة، حتى إنني تناولت مسألة الفتنة في كتاب سيدنا علي t، ومعروف أن علماء السنة يقولون: لا تدخل في الفتنة؛ لأن الله سلمنا منها بأيدينا فلا نلوث ألسنتنا بحديث عنها. هذه العقلية جعلت فرقًا ضالة يدخلون روايات ضعيفة مزيفة ويشوهون هذه المرحلة، ثم جاء المستشرقون اتبعوا مواقف هذه الفرق؛ لهذا أجتهد في مناقشة هؤلاء الناس لكن بأدب والحجة بالحجة والفكرة بالفكرة والدليل بالدليل، وبيان حقيقة ما حدث.
** قلتم إنكم ستتحدثون عن الصفحات البيضاء في التاريخ الإسلامي، فهل يدخل هذا في إطار القراءة الموضوعية للتاريخ؟
- أهتم بالنقاط البيضاء من حيث تسليط الأضواء عليها وكيفية التعامل معها، فهي بطبيعتها تؤثر في النفس تأثيرًا إيجابيًّا، ويحيي الله بها القلب وينور بها العقل. ثم إن النقاط البيضاء فيها مجال للاقتداء، إلا أنني أهتم أيضًا بالنقاط السوداء، لكن من حيث الدرس والعبرة والاتعاظ وكيف نبتعد عنها.
فبعد الصراع الفكري وخاصة بعد سقوط بغداد وظهور المـد الشيعي الرافضي بقوة واضحة، بدأت تثار شبهات كثيرة خصوصًا حول عهد الخلافة الراشدة أو حول التاريخ الإسلامي عمومًا؛ لهذا أهتم ببيان الحقائق، فأطرح منهج الرؤية الإسلامية السنية الصحيحة، وأهتم أيضًا بالأخطاء التي وقع فيها الصحابة y فأذكرها، وأبيِّن الصواب فيها..
فسيدنا معاوية t مثلاً شخصية دار حولها جدل خاصة فيما يتعلق بقضية توريث يزيد، فأحافظ على مقام الصحابي الجليل وعلى أعماله وماذا قدم للأمة، لكن في نفس الوقت لا أدافع عن الخطأ الذي وقع فيه عند توريثه ليزيد، وأحاكم اختيارات معاوية في عهد الخلافة الراشدة، وكيف اختير أبو بكر وعمر وعثمان وعلي؟ وكيف اختير معاوية نفسه؟ رضي الله عنهم جميعًا؛ لهذا أعتبر توريث يزيد من الأخطاء التي وقع فيها سيدنا معاوية، ولكن في نفس الوقت أعطيها حجمها الطبيعي؛ لأن الصحابي بالنسبة لنا ليس معصومًا.
إن ما يهمني هو الحقيقة والشبهة الموجه للحقيقة، ومعالجة الخطأ بطريقة نستخرج منها بعض العبر ونتفادى الأخطاء.
** هل تكتبون للحركة الإسلامية فقط؟
- طبعًا أكتب للأمة عمومًا ومن ضمنها الطلائع التي تمثلها الحركة الإسلامية، ولسان الحال يقول للآخرين سواء كانوا يهودًا أو نصارى: هذا تاريخنا من منظورنا؛ لأن تاريخنا -للأسف الشديد- الذي تُرجم إلى الإنجليزي أو الفرنساوي كله كتب بأيدي المستشرقين تختلف عن الرؤية الإسلامية السنية الصحيحة.
** التاريخ يتم تناوله حاليًا بمناهج حديثة، فكيف سيتفاعل معك الآخرون؟
- لم أتقيد بالمناهج السائدة لأن قضية المنهج قضية اجتهادية، ومن حقي أن أجتهد، كما أنه كلما ظهرت في الساحة كتب خصوصًا المراجع العلمية في مجال التاريخ، أستفيد منها ومن طريقة ما وصلت إليه من حقائق، سواء من السعودية أو المغرب أو مصر، هذا التراث جُلُّـه أهتم به وأهتم بالاستفادة من قضية الجرح والتعديل في الأساليب التي وصل إليها هذا العلم، وبالتالي نحن جزء من هذا التقدم، لكن تهمنا الرؤيا الإسلامية الصحيحة.
** ما هي ملامح المشروع الذي تقدمونه للقراء والأمة الإسلامية في كتاباتكم؟ وكيف نصنع نهضة في زماننا؟
- مشروع النهضة مشروع ضخم لا يستطيع أن يساهم فيه فرد بل يساهم فيه عشرات بل مئات من المفكرين في مجالات متعددة، لكن أقول: إن حسن قراءة التاريخ تساعد على استيعاب الحركة التاريخية للأمم والشعوب لإقامة الدول وزوالها وسقوطها، كما نستطيع من خلالها توحيد ما يسمى ثقافة النهوض الصحيحة من خلال دراسة حركات نهوض كالعثمانيين أو الزنكيين أو الأيوبيين أو الخلافة الراشدة، كحركات نهوض ضخمة من معالمها صفاء العقيدة وصفاء المنهج، فهناك صفات معينة تمثلت في أبو بكر الصديق وعثمان وعمر وسيدنا علي رضوان الله عليهم جميعًا. كما نلاحظ أن محمد الفاتح أو يوسف بن تاشفين وصلاح الدين مثلاً كقادة عسكريين كان بجانبهم قادة فكر وعلماء دين.
فيوسف بن تاشفين مثلاً كان بجانبه عبد الله بن ياسين الذي أسس الدولة ومهد له، ومحمد الفاتح كان بجانب آق شمس الدين أحد العلماء الأتراك، أما صلاح الدين فكان يقول: "ما فتحت بلدًا بسيفي، ولكن بقلم القاضي الفاضل". فالقيادة العسكرية تحتاج إلى قيادة فكرية لها رؤى ولها نقطة بداية لها ونقطة نهاية، وبالتالي قضية النهوض هي خلطة بين الجانب الفكري والسياسي والعقائدي وجوانب أخرى لا تأتي بسهولة وبتسطيح الأمور. ومن الأمور التي تؤهلنـا إلى فقه النهوض الدراسة العميقة المتأنية في التراث التاريخي الضخم، الذي أكرمنا الله به نحن الأمة الإسلامية.
** قلتم إن الإمام الحسن بن علي -رضي الله عنهما- قدم مشروعًا إصلاحيًّا ضخمًا رغم أنه قتل، فعلى ماذا كان يرتكز مشروعه؟ وما هي ملامح الإصلاح من خلال الحكم في التاريخ الإسلامي؟
- بالنسبة للحسن بن علي -رضي الله عنهما- قام بمشروع إصلاحي ضخم، إذ استطاع أن يقنع المتخاصمين في عهده بأهمية الصلح لصالح الأمة ولصالح الدين؛ فمشروع الحسن t قطع عدة مراحل واعترضت طريقه عدة عوائق حتى قام الصلح الذي نجح بشروط معينة، وعلى مقاصد الشريعة من حفظ الدماء ووحدة الصف من أجل الدعوة إلى الله والفتوحات؛ فسيدنا الحسن أصّل هذا الصلح على فقه الخلاف وفقه مقاصد الشريعة، وبالتالي أعتبرها تجربة إصلاحية ضخمة قائدة بالنسبة لوقتها، وقد كتبت فيه كتابًا سميته خامس الخلفاء الراشدين الحسن بن علي.
أما بالنسبة إلى عمر بن عبد العزيز فهذه دعوة إصلاحية من داخل الأسرة الحاكمة، حيث إن الأمويين انحرفوا بطريقة أو بأخرى في جوانب متعددة، وجاء هذا الرجل المصلح والمجدِّد العظيم فقام بحركة إصلاحية ضخمة عبر الحكم، حيث كان في فترة قريبًا من عمه عبد الملك الذي كان فيه ظلم وجور وفيه عدل، يعني ملَكَ في فترة الحكم العضوض، فلم يهجر السلطة الحاكمة بل كان قريبًا منها ويصلح بقدر المستطاع في قربه من عبد الملك والوليد وسليمان. ثم جاءت الفترة الذهبية بالنسبة له حيث وصل للحكم وعنده خبرة كافية في إدارة الدولة بحكم قربه من الحكام وإشرافه على بعض الأقاليم، فحكمه لم يأتِ من فراغ، وإنما من ثقافة وفقه في إدارة الدولة بحيث كان يعرف أين الخلل والانحراف في المجال الإداري وفي المجال الاقتصادي والسياسي.. وفي الجانب العقائدي اهتم بالحوار وناقش الخوارج والفرق المنحرفة، واهتم بالجانب الدعوي.
وهذا دليل آخر على أن حضارتنا وثقافتنا وفكرنا فيه من الفكر الإصلاحي الذي يمكن أن يتعلم منه الآخرون، ولا ينبغي أن نكون منهزمين أمام الصراع مع ما يسمى بالطرح الإصلاحي المعاصر الذي تتبناه أمريكا أو الغرب، وعلينا أن نستوعب التاريخ والفكر الإصلاحي الذي عندنا ونقدمه للآخرين للاستفادة منه. وقد ألفت كتابًا عن عمر بن عبد العزيز ومعالم التجديد والإصلاح الراشدي.
** توجد طوائف كثيرة في الأمة الإسلامية، ألا تشكل قراءتكم السنية إقصاء للطوائف الأخرى؟
- عندما أقول أهل السنة المقصود بها هو دين الله الحق الذي كان عليه رسول الله وأصحابه في الفهم لهذا الدين في الجانب العقائدي والفكري والأخلاقي والمعاملات والعبادة.. وبالتالي الإسلام الصحيح عندي هو المدرسة السنية التي تمثلت فيها علوم الصحابة وأخذها التابعون، ثم جاءت بعدها مذاهب الإمام مالك وأحمد والشافعي غيرها من المذاهب السنية التي حافظت على أصول الفهم للقرآن والسنة من خلال علماء الصحابة والتابعين ومن سار على نهجهم.
أما الآخرون مثل الاثني عشرية فإنهم خرجوا عن كتاب الله وسنة الرسول r في فهم العقائد، وفي تفسير القرآن، وفي النظر لكثير من القضايا الفكرية التي أصّل لها الصحابة وأخذوها من الرسول r.
فأنا ضد الخلط، لا بد أن تتمايز الأمور، الحق حق والباطل باطل، ونتعامل مع الأخطاء والانحرافات بنصح؛ فلن تحدث نهضة للأمة إلا إذا صفت الأمور، وعرفنا من هو على الإسلام الصحيح ومن هو المبتدع ومن هو المنحرف. فهذا أصل من أصول النهوض لهذه الأمة.
المصدر: موقع د. علي الصلابي.
التعليقات
إرسال تعليقك