في هذا المقال يتحدث الدكتور سهيل طقوش عن تراجع النفوذ البيزنطي من بلاد الشام عشية الفتوح الإسلامية، ويُبيِّن فيه عامل المفاجأة وأثره في هذا التراجع.
ملخص المقال
التغيير الإداري ودوره في تراجع النفوذ البيزنطي في بلاد الشام مقال يوضح أثر التغيير الإداري الذي قام به هرقل في وقوع الاضطرابات وبالتالي تراجع النفوذ البيزنطي.
شهدت بلاد الشام عشيَّة الفتوحات الإسلامية تراجعًا ملحوظًا للنفوذ البيزنطي بها ممَّا يسَّر عمليَّة الفتوحات الإسلاميَّة بها .
يُمكن للباحث أن يرصد ثلاثة عوامل في تراجع النفوذ البيزنطي إذا استثنينا التأثير الضعيف نسبيًّا للاضطرابات الدينيَّة في الإمبراطوريَّة على أوضاعها الداخلية وقوَّتها العسكرية، على الرغم من أنَّ ما حدث من القلاقل الدينيَّة بسبب ما جرى من محاولةٍ لتنفيذ قرارات مجمع خلقدونيَّة لعام 451م، اتَّخذ صفة الثورات الوطنيَّة العنيفة، بدليل استمرار تحالف القبائل العربيَّة النصرانيَّة المخالفة للعقيدة الملكانيَّة الرسميَّة مع بيزنطة.
تناول الكاتب في المقال السابق العامل الأوَّل هو عامل المفاجأة حيث تفاجأ البيزنطيُّون بالقوَّة السياسيَّة والعسكريَّة للمسلمين وهم يُحاربون على حدود بلاد الشام.
العامل الثاني: التغيير الإداري
عندما تسلَّم هرقل زمام الحكم في القسطنطينيَّة في عام 610م كان الخراب والدَّمار قد حلَّا بالإمبراطوريَّة، وساءت أحوال البلاد الاقتصاديَّة والماليَّة، وأصاب الشلل أجهزة الإدارة الحكوميَّة، وأضحى النظام العسكري الذي يستند على تجنيد المرتزقة عديم الفائدة بعد أن عجزت الدولة عن تجنيد المرتزقة بفعل فراغ الخزانة من الأموال، ويكمن دور المال هنا في تجنيد العرب للخدمة في الجيش البيزنطي وضمان استمرارهم فيه، وازدادت أهميَّته مع تنامي الدولة الإسلامية وتهديدها للمناطق الجنوبيَّة من بلاد الشام، وتعرَّضت الأقاليم الكبيرة الواقعة في وسط الإمبراطوريَّة لغارات الأعداء، فاستقرَّ الصقالبة والآقار في البلقان، في حين وطَّد الفرس وجودهم في قلب آسيا الصغرى ولم يكن ثَمَّة وسيلة لإنقاذ الإمبراطورية -التي أضحت بحاجة ماسَّة للدِّفاع عن نفسها- سوى قيام حركة إصلاحٍ داخليَّة.
في الوقت الذي كانت فيه الإمبراطوريَّة تتعرَّض للضغط الخارجي وسوء الأحوال الداخليَّة، انصرف هرقل إلى القيام بإصلاحاتٍ بالغة الأهمية وهبتها قوة جديدة، لقد التفت في بادئ الأمر إلى إعادة تنظيم أقاليم الدولة بما أدخله من نظام الأجناد، وترتَّب على ذلك التخلُّص من أسس النظام الإداري الذي وضعه الإمبراطوران دقلديانوس وقسطنطين، الذي لم يَعُد ملائمًا لسدِّ حاجات العصر[1].
تقسيم الأراضي إلى أجناد
وجرى تقسيم الأراضي التي لم يمسها العدو بالضرر إلى أقاليم عسكريَّة كبيرة وهي المعروفة بالأجناد، يتولَّى حكم كلٍّ منها قائدٌ عسكري، وبذلك اتَّخذت التنظيمات الإداريَّة الجديدة طابعًا عسكريًّا خالصًا[2].
يتمثَّل هذا النظام في استقرار الجند في أقاليم آسيا الصغرى وبلاد الشام، ولذا جرى إطلاق لفظ أجناد على الأقاليم العسكريَّة التي نشأت بعد ذلك، وأضحى هذا اللفظ الذي كان يُطلق على لواء من الجند يُطلق على الأرض التي تشغلها القوَّات العسكريَّة، وتقرَّر منح الجند مساحات من الأرض كحلٍّ للاضطراب المالي بشرط أن تكون الخدمة العسكرية مقابل ذلك وراثية.
قسَّم هرقل آسيا الصغرى إلى أربعة أجناد هي:
1-الأرمنياك ويقع إلى الشمال الشرقي ويتاخم أرمينية.
2-الأبسيق الذي يقع قرب بحر مرمرة على الساحل الغربي.
3-الكاراباسيني ويقع على الساحل الجنوبي لآسيا الصغرى.
4-الناطليق ويقع في المنطقة الشرقية.
أمَّا الأقاليم الواقعة إلى الشرق والجنوب من هذه الجهات فكانت في أيدي الفرس لذلك لم يشملها نظام الأجناد[3].
نتائج نظام الأجناد
يُعدُّ نظام الإقطاع العسكري الأساس الذي قام عليه جيشٌ وطنيٌّ قوي، وهو الذي حرَّر الإمبراطورية ممَّا تفتقر إليه من الجند المرتزقة الذين يُكلِّفون الدولة أموالًا طائلة، وغدا الجند الفلاحون الذين حصلوا على إقطاعاتٍ مقابل الالتزام بالخدمة العسكريَّة والنازلون في الإقطاعة عنصرًا ثابتًا في قوَّات الجيش البيزنطي، وأمدَّتهم إقطاعاتهم بالوسائل الاقتصاديَّة التي تكفل لهم سبل العيش، فكان كلٌّ منهم يخرج إلى الحرب بسلاحه وفرسه[4]، ومن النتائج التي ترتَّبت كذلك على قيام هذا النظام أن أصبح من اليسير تجنيد جيش من داخل الإمبراطورية البيزنطيَّة يتراوح عدده بين مائة وثلاثة عشر ألفًا، ومائة وثلاثين ألفًا موزَّعين على مختلف المناطق التي تُشكِّل الإمبراطورية.
حل نظام الأجناد محلَّ نظام حكومات الأقاليم الذي فقد أهميَّته، الذي كان يُعدُّ من أهم مظاهر الإدارة البيزنطيَّة، ونتج عن ذلك أن تغلَّبت الصفة العسكريَّة على إدارة الإمبراطوريَّة، وأُعيد النظر بتنظيم القوَّات المسلَّحة، وأتاح هذا التغيير إلى قلب المعادلة العسكرية لصالح البيزنطيين أمام الفرس[5].
غير أنَّ هذا النظام الجديد لم يترسَّخ في بلاد الشام بفعل قِصَر المدَّة بين إقراره ووقوع هذه البلاد بأيدي المسلمين، وبالتالي لم يُتَح لهذا الإقليم أن يستفيد من إيجابياته، وفُوجئ البيزنطيون بالزحف الإسلامي باتجاه بلاد الشام وهم في حالة انتقال من النظام القديم إلى النظام الجديد المستحدث.
المصدر: كتاب تاريخ الخلفاء الراشدين الفتوحات والإنجازات السياسية.
__________
[1] العريني: الدولة البيزنطيَّة: ص120.
[2].Vasilev: p227. Ostrogonky: p86
[3] العريني: ص121.
[4] المرجع نفسه: ص122.
[5] العريني: ص123.
التعليقات
إرسال تعليقك