بدأ ابن باديس إصلاحه سهلا لينا وانتهى صارما ممتنعا على نحو لم يفطن له المستعمر أول الأمر، إنه الرجل السهل الممتنع
ملخص المقال
التدين الفاسد مقال بقلم الدكتور محمد العبدة، يتناول فيه ظاهرة إظهار التدين الخارجي دون تطبيقه الفعلي وهو مرض عضال ينبغي معالجته
من الأمراض القلبية التي تصيب الأمم والتي يذكرها القرآن الكريم ويعيد ذكرها، ذلك عندما يتحول التدين إلى مظاهر خارجية، بينما تكون القلوب فاسدة والأعمال فاسدة، فلا مانع عند هؤلاء المرضى من أكل أموال الناس واجتراح الظلم، ولكنهم يتقيدون ببعض الهيئات الظاهرة. وقد ذكر القرآن الكريم بني إسرائيل كمثال واضح على هذا المرض الاجتماعي القلبي، فتحدث عن قلوبهم القاسية وقتلهم الأنبياء والمصلحين، وهم مع ذلك يعتبرون أنفسهم أفضل الأمم، ونحن نشاهد اليوم تقيدهم بلباس معين على الرأس، وترك العمل يوم السبت والتشدد في الذبائح التي يجب أن تذبح على طريقتهم، وهم في الوقت نفسه يفسدون في الأرض بتسعير الحروب وأكل الربا واستخدام المرأة للإفساد.
وقد أصاب هذا المرض قريشًا قبل الإسلام، فهم لا يخرجون إلى منطقة عرفات في الحج؛ لأنها ليست في الحرم، وهذا يعني أنهم يعظمون الحرم. وإذا جاء من يريد الحج من خارج مكة فلا بد أن يطوف بلباس لم يعص الله فيه، وإلا يجب أن يطوف عريانًا أو يطلب من أهل مكة لباسًا على سبيل الإعارة، وهذا من الأسباب التي منعت الرسول r أن يحج في العام التاسع، وأرسل عليًّا t لينادي في الناس ألا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان.
وإعادة الحديث عما أصاب بني إسرائيل؛ حتى لا يقع المسلمون بما وقع فيه من سبقهم، فيأخذوا بالفروع ويتركوا الأصول ويهتموا بالمندوبات والتحسينيات أكثر من الاهتمام بالضروريات، ويقع أحدهم بالحسد والكبر وأكل أموال الناس بالباطل ولكن زيه وهيئته الخارجية على السُّنَّة، فهذه الهيئة وإن كانت مطلوبة شرعًا ولكنها ليست مقدمة على أعمال القلوب الصالحة، والأصل هو الأعمال الداخلية في الإخلاص والمحبة والرضا والتوكل والخشية والإنابة... فإن الشكل الخارجي عندما لا يقوم على بواعث داخلية، فإن مقاصد الدين تضيع، وقد ورد عن عيسى u أنه صاح في الكهنة اليهود: "ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراءون؛ لأنكم تنقون خارج الكأس والصحفة وهما من داخل مملوءان اختطافًا ودعارة. أيها الفريسي الأعمى، نقِّ أولاً داخل الكأس والصحفة؛ لكي يكون خارجها نقيًّا أيضًا"[1].
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أنه "لا يجوز أن نجعل المستحبات بمنزلة الواجبات، بل قد يكون ترك المستحبات لمعارض راجح أفضل من فعلها، ومعلوم أن ائتلاف قلوب الأمة أعظم في الدين من بعض المستحبات كالقنوت في الفجر، والنزاع في استجابة أو كراهية، أو النزاع في أنواع التشهدات، وكلها جائز...".
إن التشدد في المستحبات أو الهيئات الظاهرة وترك الأصول من أعمال القلوب غير الصالحة، هذا التشدد إنما هو في أغوار النفس المريضة تعويض عن الضعف في تطبيق جوهر الدين وغاياته ومقاصده الكبرى، وهو في الحقيقة هروب إلى الذي لا يكلف الإنسان كثيرًا، والقرآن الكريم ينتقد الطريقة الانتقائية في تطبيق النصوص أو إخضاع القيم الأخلاقية لاعتبارات دينية مزيفة كاستحلال اليهود أكل مال غير اليهود (ليس علينا في الأميين سبيل)، أو التحايل على النصوص كما في قصة السبت التي ذكرها القرآن.
أليس الأجدى الاهتمام بأمراض القلوب في الاهتمام بأمراض الأجساد؟! وكل يعرف نفسه.
المصدر: موقع الوفاق الإنمائي.
التعليقات
إرسال تعليقك