قضية القدس والمسجد الأقصى هي القضية الكاشفة والفاضحة لأفعال الكثير من الناس، فما هو دور العلماء والدعاة والمساجد والمراكز في دعم القدس؟
ملخص المقال
كيف يمكن للأمة الإسلامية مواجهة المخطط التدميري الممتذ الجذور في التاريخ؟ وما هو منهج الإسلام في بناء وحدة الأمة؟
منذ مطلع القرن الماضي، وبعد القضاء على دولة الخلافة الإسلامية التي كانت توحد أمة الإسلام وأقطارها رسم المستعمر البريطاني والفرنسي، وتبعه الأمريكي خطة لتقطيع الأوطان العربية والإسلامية؛ وذلك بهدف احتلال الأوطان وشل حركة الشعوب، ومنعها من المقاومة والتحرر.
وكان من أسس هذه الخطة ما يلي:
1- التقطيع السياسي بمعاهدة سايكس بيكو، وتحويل الوطن العربي إلى دويلات تفتقر كل دولة إلى مقومات الدولة.. فنظام الحكم فردي استبدادي، والديمقراطية مغيبة، أو مزورة، والميزانية من مساعدات الأجنبي لإحكام هيمنته، أو قائمة على القروض والديون، والاقتصاد والتنمية محكومة بأهداف المستعمر في فرض التخلف والعجز.
2- التقطيع الثقافي والفكري بإقامة مدارس أجنبية في بلاد المسلمين وجامعات تحمل الفكر الغربي وتحارب الإسلام عقيدة وحضارة، وتشكك بأصولنا الحضارية التي صنعت أمجاد هذه الأمة ووحدتها، مثل كتاب "طه حسين" في الأدب الجاهلي وتشكيكه بلغة القرآن والشعارات التي رفعها: "خذوا عن الغرب خيره وشره"، والتأسيس للأحزاب العلمانية التي تحارب الإسلام حضارة وتشريعًا وقانونًا، وتدعو لفرض التغريب والعادات الغربية والقوانين الغربية في بلاد المسلمين، وكان تغريب المرأة والأسرة من أخطر ما تعرضت له وحدتنا الاجتماعية والأسرة المسلمة.
3- تشجيع الغرب للحركات القومية المنفصلة عن الإسلام، ومحاربة الحركات القومية التي تؤلف بين عروبتها وإسلامها.
وفي ظل القومية المنفصلة عن الإسلام تحصن أصحاب الفكر المستورد من اليساريين واللادينيين والماركسيين ليخدعوا الجماهير بأنهم قوميون، وما هم إلا شعوبيون منسلخون عن عروبتهم وإسلامهم وحضارتهم، ويسعون لتحقيق أهداف المستعمر بالقضاء على دين الأمة؛ دين الوحدة والجهاد والتحرير. وكان أوضح مثال على ما ذكرنا الأحزاب القومية التركية والعربية والكردية التي انسلخت عن الإسلام، ففقدت مصداقيتها في توحيد الأمة. وحين تمكنت من الحكم حوّلته إلى "مزارع" للحاكم وأتباعه وأنصاره، وأعدمت "الديمقراطية" وقطّعت أوصال المجتمع وعاثت في الأرض فسادًا، وهيأت للمحتل المستعمر أن يحتل الأوطان، والشعوب في القيود والأغلال التي صنعها الحكم المستبد الظالم.
وكذلك الأحزاب الكردية "العلمانية" و"الماركسية" التي تحولت إلى "مطايا" لجنود المحتل المستعمر في العراق، ولا يجد المحتل الصليبي خادمًا لأهدافه، وهيمنته خيرًا من نظامين: نظام يدّعى القومية، ويرفع شعار العلمنة والماركسية، ونظام يدّعى الإسلام، ويبطن الكفر بولايته للأجنبي الذي ينهب خيراتها وبركاتها، ويعطل الشورى والمحاسبة والمراقبة على مال الأمة، ويحوله إلى ميزانيته الخاصة، ومشاريعه الفردية والأسرية، ولا ينال الشعب إلا الفتات.
والأمثلة كثيرة لأهداف المستعمر التربوية والسياسية في إنشاء الأحزاب والشعارات التي تمزق وحدة الأمة؛ فالدعوة إلى الفارسية رفع شعارها شاه إيران في ظل القومية الفارسية، وكان حليف اليهود الأول في المنطقة.
والدعوة إلى الفرعونية رفع شعارها "لطفي السيد" وإخوانه في مصر، برعاية من السفارة البريطانية.
والدعوة إلى "الفينيقية" رفع شعارها "أنطوان سعادة" و"القوميون السوريون" في سوريا ولبنان وبلاد الشام، وكذلك الدعوة إلى "البربرية في المغرب" "والأشورية في العراق"، واليوم نجد الصورة واضحة صارخة في العراق فهو يواجه مؤامرة التقطيع والتفتيت في ظل العصبية الكردية اللادينية، وفي ظل العصبية الطائفية، وإذا نجح المستعمر الأمريكي في تقطيع العراق وحوّله إلى سنة وشيعة، وعرب وكرد وتركمان.. كان الخطر الماحق الذي يهدد وطن الإسلام وأمته، وهذا ما يدعونا إلى رفع شعار الوحدة والتذكير بثوابت العقيدة، وشواهد التاريخ والله المستعان.
الإسلام ومنهجه في بناء وحدة الأمة
كان العرب قبل الإسلام قبائل يستحل بعضها دماء بعض، وأموال بعض، وأعراض بعض، وكانت الفرس والروم هي المستفيدة من هذا التقطيع والعداوة، وكان اليهود داخل الجزيرة هم المستفيدين من حروب الأوس والخزرج للهيمنة على سوق المدينة التجاري وأحسن أراضيها الزراعية، وفي خيبر وتيماء.
فبعث الله نبيه محمدًا r بهذا الإسلام؛ ليصنع وحدة الأمة على الأسس والقواعد التالية:
1- إعلان هوية الأمة وترسيخ أخوتها الإسلامية، وقد بيّن الله تعالى {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 92]، {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10].
وفي ظل رابطة الأخوة الإسلامية تآخى المهاجرون والأنصار، وتوحدت القبائل العربية، وانطلقت في ظل هذه الوحدة لتحرر أرضها من الشرك والأوثان، ومن الفرس والرومان، ومن الأنظمة الجاهلية، وفي ظل هذه الأخوة الإسلامية تآخى العرب والترك والفرس والعجم ما وراء النهر، ودخل الناس في دين الله أفواجًا، ووجدت القوميات المتعددة في ظل الإسلام القاسم المشترك الذي يوحدها ويعتصر خيراتها وكفاءاتها، فخدموا اللغة العربية، وعلوم التفسير والفقه والحديث، وكان سيبويه إمام العربية، والزمخشري إمام التفسير، والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجه أئمة الحديث النبوي.. هذه العلوم التي حفظت هوية الأمة الحضارية لغة وكتابًا وحديثًا وتفسيرًا.
وما أجمل قول الشاعر العربي في هذه الأخوة:
أبي الإسلام لا أب لي سواه *** إذا افتخروا بقيس أو تميم
وقول الشاعر الهندي:
العُرب لنـا، والهنـد لنا *** والصين لنا، والكل لنا
أضحى الإسلام لنـا دينًا *** وجميع الكون لنا وطنًا
ويذكّر الشاعر الهندي بأصل هذه الأخوة فيقول:
غرس الأخوة أصله من يثرب *** هي جنة المأوى وغارسها النبي
إن ضلّت الدنيا أعـاد صوابها *** نور المدينة لا شعاع الكوكب
وقد حذّرنا ربنا -تبارك وتعالى- ونبينا r من الفرقة بكل صورها وألوانها فقال تعالى: {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 105]، وفي آية {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 46].
وقد دلّنا ربنا على القاعدة التي تقوم عليها الوحدة وهي طاعة الله ورسوله، وأتبعها بالنهي عن النزاع والخلاف؛ فعلى طاعة الله ورسوله تتوحد الأمة، وتلتقي على المنهج الرباني الذي يقيم العدل والمساواة والتراحم، والتعاون، والتكافل، مهتديًا بقول النبي الكريم: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى".
وهذا ما ذكره الله بقوله: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران: 103].
وقد حذرنا النبي الكريم r من الفرقة وقرنها بالكفر بقوله: "لا تعودوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض". وفي ظل هذا الحديث النبوي نتوجه لأهلنا في العراق وفي كل أرض ونقول: هل يسركم أن تحققوا أهداف المحتل الأمريكي فيضرب بعضكم رقاب بعض؛ ليقضي أعداء الله على الإسلام والمسلمين في هذه البلاد، ولا يبقى أحد: لا سنة ولا شيعة، ولا عرب ولا كرد؟! إن عدوكم يراهن على فرقتكم، وتفجير الحروب الداخلية ليجعل من هذه البلاد "أندلسًا جديدة"؛ ليبيد فيها الإسلام والمسلمين، فماذا تقولون للتاريخ وللأجيال؟ وأستشهد هنا بشعر للشيخ عز الدين التنوخي رحمه الله وقوله:
ليس قتل الحسين أعظم جرمًا *** وهو مما اهتزت له الأجرام
مـن تعاديكم الذي حرم الله *** ومن أن تُقطَّـع الأرحـام
إن الإمام الحسن بن علي t وحّد المسلمين في عام الجماعة، وتنازل عن الحكم ليحقن دماء المسلمين، وكان وراء هذا الصلح انتشار الإسلام في إفريقيا وما وراء النهر، حيث تفرغ المسلمون للجهاد، ونشر الدعوة، بدل القتال الداخلي.
الوحدة والفتوحات والانتصارات
أخطر ما يهدد الوحدة أن تكون شعارًا بلا مضمون عقائدي وأخلاقي وثقافي وحضاري.
إن العقيدة الحقة التي تصهر صاحبها في رسالته وهدفه، كانت غائبة لدى بعض الأحزاب القومية، وحلّت محلها الغنائم والمصالح والاستبداد والقمع الذي فرّق الأمة، ومكّن أعداءها منها. إن الشعب في ظل القمع والجوع والتنكيل لا يستطيع أن يدافع عن نفسه، ولا أن يتحد ويجمع صفه، وقد هشمته سهام حكامه وظلمهم. ولكن الشعب حين يجد القيادة المؤمنة الواعية الهادية التي تقيم العدل والمساواة، وتنشر قيم الرحمة والتكافل والتعاون بين الناس، تكون قد وحدت الأمة من الداخل وجعلتها كالبنيان المرصوص. وهذا ما نضرب له بعض الأمثلة من تاريخ هذه الأمة:
1- في غزوة بدر، وبعد نجاة عير أبي سفيان، كان همّ رسول الله r وحدة المجاهدين في وجه الأعداء.. وكان الطريق لهذه الوحدة (الشورى) "أشيروا عليَّ أيها الناس"، حتى إذا بايعوا جميعهم رسول الله على الموت، يبشرهم النبي الكريم بنصر الله.
2- في فتح مكة.. كان همّ رسول الله r المحافظة على وحدة قريش ودخولهم في دين الله، ولهذا رفع شعار العفو العام وداوى الجراح وعفا عن أبي سفيان، وعكرمة بن أبي جهل، وصفوان بن أمية.. وهند زوج أبي سفيان.. وكان من آثار هذا العفو وهذه الوحدة انتصارات الإسلام في اليرموك التي كان من جنودها وأبطالها عكرمة وولده، ويزيد بن أبي سفيان، وأبو سفيان وهند زوجه.
3- في معركة اليرموك كانت خطة خالد بن الوليد t لمواجهة جيوش الروم التي حشدها هرقل عند اليرموك لتكون المعركة الفاصلة. أقول: كانت خطة خالد ما لخّصه بخطبته في الجيوش الأربعة من المسلمين التي كانت تقاتل تحث أربع قيادات: "إن وحدتكم أنفع من كل الإمدادات التي تطلبونها، وإن فرقتكم أنفع لعدوكم من كل الإمدادات التي وصلته"، ثم عرض عليهم أن يوحدوا القيادات بقيادة واحدة، والجيوش بجيش واحد، وأن يتناوبوا الإمارة، وطلب أن يسلموه القيادة في اليوم الأول، واستجاب القادة المؤمنون لنداء الوحدة، وسلموا خالدًا القيادة.. وأحرز النصر للإسلام والمسلمين من اليوم الأول.
4- في معركة حطين كان تعدد الإمارات في بلاد الشام، وكان انفصال مصر عن بلاد الشام من أسباب سيطرة الصليبيين واحتلالهم بلاد الشام وإقامة الإمارات الصليبية في فلسطين والكرك وبلاد الشام وغيرها.
وكان طريق صلاح الدين للنصر في حطين أن وحّد بلاد الشام وبلاد مصر في جيش واحد، كما وحّد الإمارات في بلاد الشام تحت لوائه، ووحّد الأمة تحت راية الإسلام والجهاد، وأقام العدل وأرسى معالم الأمن، فكان النصر العظيم في حطين الذي هزم فيه صلاح الدين أربعة عشر ملكًا صليبيًّا بقلاعهم وحصونهم وجيوشهم.
5- وفي معركة عين جالوت وحّد السلطان قطز والظاهر بيبرس الأمة تحت راية الإسلام والجهاد.. وأقام ملك العلماء العز بن عبد السلام العدل في الرعية وأجبر الحكام على العدل والرحمة، وحرّض الأمة على الجهاد، وجعل يوم الجمعة وساعة الأذان موعدًا لبدء المعركة لتتوحد قلوب الأمة مع تكبيرات المجاهدين في معركة الإسلام الفاصلة التي هزم بها التتار شر هزيمة، وحفظ الله بعدها الإسلام في هذه الأرض.
الوحدة.. خلق وتربية وثقافة
وإذا درسنا تعاليم الإسلام في وحدة المسلمين في الصلاة صفوفًا متراصة يتقدمهم إمامهم، ووحدة المسلمين في الصوم ينضبطون جميعًا لبداية الإمساك والإفطار وبأخلاق الصائمين، ووحدة المسلمين في الحج على أرض عرفة، وحول منى، وحول البيت، يلبّون ويكبرون ويعلنون الأخوة الإسلامية: العرب هنا، والترك هنا، والشقر هنا، والسود هنا.. قبلتهم واحدة، وهتافهم واحد: لبيك اللهم لبيك، كتابهم واحد، ودينهم واحد، ونبيهم محمد r واحد، هذه الوحدة التي يصنعها الإسلام في شعائره وعباداته وسلوك أبنائه تحتاج إلى الإمام القائد الذي يجمع الأمة ويوحدها للوقوف في وجه أخطر حملة تدميرية صليبية يهودية، تسعى لهدم حصوننا الإيمانية والثقافية والحضارية والسياسية والاجتماعية من الداخل، وتحتاج إلى الشعب الواعي الذي يعرف كيف يجند نفسه لله في وجه الاحتلال الأمريكي التدميري الذي فرّقنا إلى دويلات لا تملك من أمرها شيئًا، وإلى شعوب مقهورة، تُسلب خيراتها، وتُحتل أوطانها، ويُقتل أبناؤها في العراق وفلسطين والشيشان، ويُهدد مسجدها الأقصى بالهدم لبناء الهيكل المزعوم على أنقاضه.
لقد أعلنها "بوش" حربًا صليبية على العراق وأفغانستان، وهذا ما يدعونا إلى الوحدة بالتراحم المتواصل وبتعاون مؤسسات المجتمع المدني؛ لمقاومة هذه الحملة وبإعلان الشعوب ولاءها لدينها وقرآنها، ومطالبتها حكامها بالوحدة والجهاد، وإقامة أحكام الله.
لا عذر لأحد والخطر داهم، وصوت المنادي من خلال العصور يهتف بحديث النبي الكريم: "ليس منا من دعا إلى عصبية، وليس منا من قاتل على عصبية، وليس منا من مات على عصبية، ذروها فإنها منتنة"، "لا تعودوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض". فإلى الوحدة والجهاد، ورب العزة يقول: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف: 4].
المصدر: موقع مجلة الفرقان.
التعليقات
إرسال تعليقك