هل ترى ان الاحداث التى تحدث الان تمهد لحدث عظيم يخص الامة الاسلامية بلتحديد ظهور الامام المهدى وتوحيد صف الامة
ملخص المقال
ما طبيعة علاقة الرسول مع يهود خيبر؟ سؤال يجيب عنه الدكتور راغب السرجاني مبينا من هم يهود خيبر وموقعهم من المدينة وتاريخ السلام والحرب بينهم وبين المسلمين حتى فتح خيبر سنة 7 هـ
يهود خيبر ومَنْ إليهم.. وكانوا بعيدين عن المدينة بثمانين ميلاً، ولم يُعاهدهم الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلاَّ بعد أن انتصر على معظمهم في غزوة خيبر مطلع العام السابع الهجري.
كانت خيبر مدينة كبيرة ذات حصون وقلاع ومزارع، وهي تقع على بُعد ثمانين ميلاً شمال المدينة، وكانت على مدار سنوات عديدة تُمَثِّل منطلقًا للكثير من المؤامرات اليهودية الموجهة ضدَّ المسلمين في المدينة المنورة.
وسيتم -إن شاء الله- دراسة طبيعة علاقة الرسول مع يهود خيبر من خلال هذه النقاط التالية:
أولًا: مرحلة الدعوة
لم يكن هناك أيُّ عداء أو تحرُّش حربي من المسلمين ضدَّ يهود خيبر؛ بل على العكس من ذلك كانت الدعوة من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لهم، ومراسلتهم من خلال كتاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إليهم، والذي يدعوهم فيه إلى الله تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة، ويُذَكِّرهم ببعض ما عندهم في التوراة، وقد ذكر ابن إسحاق ذلك فقال: وكتب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى يهود خيبر، فيما حدثني مولى لآل زيد بن ثابت، عن عكرمة أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس -رضي الله عنهما: "بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ مُحَمَّدٍ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صَاحِبِ موسى وَأَخِيهِ وَالمُصَدِّقِ لِمَا جَاءَ بِهِ موسى: أَلاَ إِنَّ اللهَ قَدْ قَالَ لَكُمْ يَا مَعْشَرَ أَهْلِ التَّوْرَاةِ، وَإِنَّكُمْ لَتَجِدُونَ ذَلِكَ فِي كِتَابِكُمْ: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح: 29]، وَإِنِّي أَنْشُدُكُمْ بِاللهِ، وَأَنْشُدُكُمْ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْكُمْ، وَأَنْشُدُكُمْ بِالَّذِي أَطْعَمَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ مِنْ أَسْبَاطِكُمُ المَنَّ وَالسَّلْوَى، وَأَنْشُدُكُمْ بِالَّذِي أَيْبَسَ الْبَحْرَ لآبَائِكُمْ حَتَّى أَنْجَاهُمْ مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ؛ إِلاَّ أَخْبَرْتُمُونِي: هَلْ تَجِدُونَ فِيمَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِمُحَمَّدٍ؟ فَإِنْ كُنْتُمْ لا تَجِدُونَ ذَلِكَ فِي كِتَابِكُمْ فَلا كره عَلَيْكُمْ؛ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ، فَأَدْعُوكُمْ إِلَى اللهِ وَإِلَى نَبِيِّهِ (1).
ثانيًا: الموقف العدائي ليهود خيبر
ومع أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- لم يدخل في صراع أو حربٍ مع خيبر؛ إلا أن هذه المدينة كانت ملاذًا آمنًا ومستَقَرًّا معروفًا لمن يُريد التخطيط لهدم الدولة الإسلامية وتقويض بنيانها، فقد لجأ إليها سلامُ بن أبي الحقيق المعروف بأبي رافع، وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق، وحيي بن أخطب، وهم من أشراف بني النضير(2)، ومن ألدِّ أعداء المسلمين، ومن الذين أجلاهم الرسول -صلى الله عليه وسلم- من المدينة بعدما اقترفوا من الجرائم الكثير والكثير.
وإن مجرَّد إيواء هذه القيادات من الأعداء لهو جريمة كبرى ضدَّ الدولة الإسلامية، كما أنه تحدٍّ واضحٍ للإسلام وللرسول –صلى الله عليه وسلم.
ولم يكن لجوء هؤلاء اليهود من بني النضير إلى خيبر لمجرَّد العيش والاستقرار بين أهل خيبر؛ وإنما كان لإشعال نيران الحرب ضدَّ المسلمين، وتجميع مَنْ حولهم على قلب رجل واحد لاستئصال شأفة الإسلام والمسلمين، ولاقتلاع المدينة من جذورها.
وقد بدأ يهود بني النضير المقيمين بخيبر، ومَنْ معهم من يهود خيبر وزعمائها بتأليب المجتمع القَبَلي على المسلمين.
فخرجت مجموعة من يهود خيبر ويهود بني النضير لتجميع الأحزاب المشركة بهدف حصار المسلمين، فتوجَّهُوا أولاً إلى قريش لإغرائها بحرب المسلمين؛ وأن هذه فرصة لجمع كل القبائل لقتال المسلمين، ومما قالوه لمشركي قريش: إنا سنكون معكم حتى نستأصله (3). وبدأت قريش في تجميع المقاتلين؛ فتجمَّع أربعة آلاف مقاتل، ثم انتقل اليهود من قريش إلى غطفان لإغرائهم بقتال المسلمين، وتخوَّفت غطفان من حرب المسلمين رغم أنهم قبائل كثيرة وقوية، فقام اليهود بإغراء غطفان بالأموال، ورغم بخل اليهود بالمال فإنهم عند الصدِّ عن سبيل الله ومحاربة الإسلام يُنفقون ببذخ؛ فقد عاهد اليهود غطفان على أن تكون لهم ثمار خيبر لمدَّة عام، والمعروف أن ثمار خيبر كانت كثيرة، فضحَّوْا بكلِّ هذا من أجل حرب المسلمين، وإلحاق الأذى بهم، ووافقت قبائل غطفان بعد أن أغراهم اليهود بالمال على أن يعملوا على تجميع ستة آلاف مقاتل، فيكون مجموع الأحزاب عشرة آلاف مقاتل، كان لليهود -كما نرى- الدور الأكبر في تجميعهم لغزو المدينة المنورة.
ولو تمَّ للأحزاب ما أرادوا لأُبيد شعب المدينة عن آخره، عدا يهود بني قريظة -بالطبع- لتعاونهم مع الأحزاب، وخيانتهم للمسلمين.
كانت خيبر -إذًا- تمثِّل بؤرة خطرٍ عظيمٍ على المسلمين، فعلى الرغم من أن المسلمين لم يقتربوا منها بسوء، فإنها كانت دائمًا على عداء تامٍّ للرسول –صلى الله عليه وسلم- وللمسلمين؛ وهذا ما جعل هناك ضرورة مُلِحَّة لتأديبهم، ومحاسبتهم على بعض ما اقترفوا من جرائم في حقِّ الدولة الإسلامية.
ثالثًا: الحرب والسلام مع خيبر
فلما تفرَّغ الرسول -صلى الله عليه وسلم- من أمر قريش بصلح الحديبية، التفت إلى يهود خيبر فحاصرهم وقاتلهم حتى نزلوا على رأيه –صلى الله عليه وسلم.
ولم يكن يهود خيبر ليستسلموا سريعًا، فهم يملكون الحصون العظيمة التي يستطيعون من خلالها توفير الحماية لهم، ومواجهة مَنْ يُقاتلهم مدَّةً طويلة، كما أظهروا ألوانًا من الصمود والشراسة في القتال، وأظهروا الكبر والعناد ضدَّ المسلمين.
وبعد معارك عديدة وحصار لحصونهم الواحد تلو الآخر طلب اليهود أن ينزلوا على الصلح، وأن يتفاوضوا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وقَبِلَ -صلى الله عليه وسلم- منهم ذلك، وكانت خلاصة الأمر أن تمَّ التصالح على حقْن دمائهم، ودماء كلِّ مَنْ في الحصون من المقاتلة والذرية والنساء، وعلى أن يتركوا خلفهم الديار والسلاح والأموال والذهب والفضة ويخرجوا دون شيء، كما اشترط الرسول -صلى الله عليه وسلم- في هذه المعاهدة عليهم شرطًا مهمًّا: «أَنْ لَا يَكْتُمُوا، وَلَا يُغَيِّبُوا شَيْئًا، فَإِنْ فَعَلُوا فَلَا ذِمَّةَ لَهُمْ، وَلَا عَهْدَ»(4). أي لو أن أحدًا من اليهود أخفى شيئًا من الأموال أو من الذهب أو الفضة، فللرسول -صلى الله عليه وسلم- أن يقتله بهذا الإخفاء، وقَبِل اليهود هذا الصلح، وبدءوا في الخروج من خيبر، وقد حقن الرسول -صلى الله عليه وسلم- دماءهم جميعًا بهذا الصلح، وذلك رغم ما قدَّمت أيديهم من سوء، ولم يقتل إلاَّ مَنْ برزت خيانته لهذا العهد، كما وقع لكنانة بن أبي الحقيق (5).
إلى هذا الحدِّ كان الأمر كله بيد المسلمين، وليس أمام اليهود اختيار غير الخروج، ومع ذلك ولرغبة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في التعايش السلمي مع الآخر؛ قَبِلَ بالطرح الذي قدَّمه اليهود؛ لقد طلب اليهود من الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن يزرعوا هذه الأرض مناصفة مع المسلمين؛ فعن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أنه قال: «أَعْطَى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خَيْبَرَ اليَهُودَ أَنْ يَعْمَلُوهَا وَيَزْرَعُوهَا، وَلهُمْ شَطْرُ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا»(6).
وكان هذا الصلح بمثابة الإحسان التامِّ من قِبَل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليهود خيبر، وإنقاذًا لهم من الخروج إلى الصحراء؛ فقد كانت المعاهدة الأولى تنصُّ على إجلائهم تاركين خلفهم كل شيء.
رابعًا: ما بعد المعاهدة مع يهود خيبر
لقد جرت الحياة بصورة طبيعية مع أهل خيبر، الذين ظلُّوا في أعمالهم يقومون بها بحُرِّيَّة تامَّة، ولم تُؤْثَر أي مواقف تدلُّ على تعنُّت المسلمين مع يهود خيبر؛ برغم الاختلاط الواضح والمستمرِّ لفترة كبيرة نظرًا لطبيعة العمل الذي يربط بين الفريقين؛ مما يدلُّ على إحسان المسلمين وسُمُوِّ أخلاقهم مع يهود خيبر.
محاولة اغتيال رسول الله في خيبر
وعلى الرغم من حرص الرسول -صلى الله عليه وسلم- الدائم على الوفاء لليهود بعهدهم؛ فإنه قد ظهرت عدَّة مخالفات خطيرة ليهود خيبر معه؛ منها محاولتهم أن يقتلوه عن طريق وضع السمِّ في الشاة؛ فيروي أبو هريرة –رضي الله عنه- فيقول: لمَّا فُتحت خيبر أُهدَيَتْ للنبي -صلى الله عليه وسلم- شاة فيها سُمٌّ، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: «اجْمَعُوا إِلَيَّ مَنْ كَانَ هَا هُنَا مِنْ يَهُودَ». فجُمعوا له فقال: «إِنِّي سَائِلُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَهَلْ أَنْتُمْ صَادِقِيَّ عَنْهُ؟» فقالوا: نعم. قال لهم النبي -صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَبُوكُمْ؟» قالوا: فلان. فقال: «كَذَبْتُمْ، بَلْ أَبُوكُمْ فُلاَنٌ». قالوا: صدقت. قال: «فَهَلْ أَنْتُمْ صَادِقِيَّ عَنْ شَيْءٍ إِنْ سَأَلْتُ عَنْهُ؟» فقالوا: نعم يا أبا القاسم، وإن كذبنا عرَفْتَ كَذِبَنَا كَمَا عَرَفْتَهُ في أبينا. فقال-صلى الله عليه وسلم- لهم: «مَنْ أَهْلُ النَّارِ؟» قالوا: نكون فيها يسيرًا ثم تخلفونا فيها. فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: «اخْسَئُوا فِيهَا! وَاللهِ لاَ نَخْلُفُكُمْ فِيهَا أَبَدًا». ثم قال -صلى الله عليه وسلم: «هَلْ أَنْتُمْ صَادِقِيَّ عَنْ شَيْء إِنْ سَأَلْتُكُمْ عَنْهُ؟». فقالوا: نعم يا أبا القاسم. قال: «هَلْ جَعَلْتُمْ فِي هَذِهِ الشَّاةِ سُمًّا؟» قالوا: نعم! قال -صلى الله عليه وسلم: «مَا حَمَلَكُمْ عَلَى ذَلِكَ؟» قالوا: أردنا إن كنتَ كاذبًا نستريح، وإن كنتَ نبيًّا لم يضرَّك (7).
لقد قام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بتحقيقٍ هادئ غير منفعل مع اليهود الذين دبَّروا مؤامرةَ اغتياله، وأقام عليهم الحُجَّة حتى اعترفوا بألسنتهم بأنهم دَبَّروا محاولةَ القتل، واكتشف –صلى الله عليه وسلم- أن هذه المجموعة من اليهود قد أمرت إحدى نساء اليهود لتضع السُّمَّ بنفسها في الشاة، ثم تُقَدِّمها إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.. فالرجال هم الذين أمروا، والتي نَفَّذَت الأمر وباشرت الفعل هي المرأة.
وقبل أن تعرف ردَّ فعله –صلى الله عليه وسلم- لهذه المؤامرة تَوَقَّفْ لحظاتٍ مع واقع غيره من الزعماء والرؤساء والملوك، وردود أفعالهم لمَنْ دبَّر مؤامراتٍ لاغتيالهم! إن أبسط ما يُمكن تخيُّلُهُ في هذه اللحظات أن يُقتَل الذي باشر الفعل، والذي أمر به، والذي عَلِم به، والذي رضي به.. وقد يُؤخذ عموم أهل البلدة أو المدينة بفعل هذا الرجل.. إن هذا هو الواقع فعلاً دون مبالغة.
فماذا كان حال رسولنا –صلى الله عليه وسلم؟!
لقد قال الصحابة –رضي الله عنهم- لرسولنا –صلى الله عليه وسلم: ألا تقتلها؟! فرفض –صلى الله عليه وسلم؛ لأنها محاولةُ قتلٍ، وليست قتلاً فعلاً!! فلا يجوز قتلها.
ثم إنه –صلى الله عليه وسلم- لم يُعاقبها، ولا مَنْ أمرها من اليهود بأي عقابٍ؛ لأنه قَبِلَ حُجَّتَهُمْ: لو كان كاذبًا استراحوا، ولو كان نبيًّا لم يضرّه.
لقد قَبِلَ –صلى الله عليه وسلم- حُجَّتهم مع أنَّ أحدًا منهم لم يؤمن؛ مما يُوَضِّح أنهم لم يفعلوا ذلك أملاً في ظهور الحقيقة، ولكن فعلوا ذلك حَسَدًا من عند أنفسهم، وبُغضًا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
ومع كل ذلك، لم يُعاقبهم..
غير أن أحد الصحابة وهو بشر بن البراء بن معرور(8) –رضي الله عنه- كان قد أكل مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الشاة المسمومة، فمات مقتولاً بسُمِّهَا، فهنا أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقتل المرأة قصاصًا، ولم يُقْتَل معها أحدٌ من أهل خيبر. يقول القاضي عياض (9): «لم يقتلها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أولاً حين اطَّلع على سُمِّهَا، وقيل له: اقتُلْها. فقال: لا. فلمَّا مات بشر بن البراء من ذلك سلَّمها لأوليائه، فقَتَلوها قِصَاصًا»(10).
وكذلك ما فعلوه مع عبد الله بن رواحة -رضي الله عنه- من محاولة رشوته ليُخالف التوزيع الذي اتَّفق عليه الطرفان بشأن ثمار الأرض؛ فعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: افْتَتَحَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خَيْبَرَ وَاشْتَرَطَ أَنَّ لَهُ الْأَرْضَ، وَكُلَّ صَفْرَاءَ وَبَيْضَاءَ (11)، قال أهل خيبر: نحن أعلم بالأرض منكم فَأَعْطِنَاهَا على أنَّ لكم نصف الثمرة ولنا نصف. فَزَعَمَ أَنَّهُ أَعْطَاهُمْ عَلَى ذَلِكَ، فلمَّا كان حين يُصرم النخل(12) بعث إليهم عبد الله بن رواحة فحزر عليهم النخل، وهو الذي يسميه أهل المدينة الخَرْصَ(13)، فقال: في ذِهْ كذا وكذا. قالوا: أكثرتَ علينا يا ابن رواحة. فقال: فأنا أَلِي حَزْرَ النخل وأعطيكم نصف الذي قلتُ. قالوا: هذا الحقُّ وبه تقوم السماء والأرض قد رضينا أن نأخذه بالذي قلتَ(14).
ولكن رواية الإمام مالك في الموطأ تُوَضِّح لنا تفاصيل أكثر عن محاولة الرشوة؛ فعن سليمان بن يسار أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يبعث عبد الله بن رواحة إلى خيبر فيخرص بينه وبين يهود خيبر، قال: فجمعوا له حليًّا من حلي نسائهم، فقالوا له: هذا لك وخَفِّفْ عنَّا وتجاوز في القسم. فقال عبد الله بن رواحة: يا معشر اليهود؛ والله إنكم لمن أبغض خلق الله إليَّ، وما ذاك بحاملي على أن أحيف عليكم، فأمَّا ما عرضتم من الرشوة فإنها سحت، وإنَّا لا نأكلها. فقالوا: بهذا قامت السماوات والأرض (15).
وهذه القصَّة تُبَيِّن مدى الفساد الذي كان يُعَشِّش في قلوب اليهود، ورغبتهم في نشر هذا الفساد في أوساط الصحابة –رضي الله عنهم؛ فهم لم يكتفوا بما كانوا يفعلونه من ربا ورشوة؛ فأرادوا هنا أن يقوموا برشوة الصحابي الجليل عبد الله بن رواحة -رضي الله عنه؛ وهم هنا يُدركون أنهم يُفسدون الجهاز الحكومي لدولة الإسلام؛ فليس الأمر مجرَّد محاولة الاستزادة فوق نصيبهم المحدَّد وفق المعاهدة، وإنما هي محاولة لإشاعة الفساد في الدولة الإسلامية.
ومع ذلك، وبرغم هذه التعديات فإن الرسول -صلى الله عليه وسلم- ظلَّ وفيًا على عهده معهم، ولم يحدث بينه وبينهم أي مناوشات أو صدامات حتى وفاته –صلى الله عليه وسلم.
1- ابن هشام: السيرة النبوية 1/544، 545، والزيلعي: نصب الراية 4/419، وابن كثير: السيرة: النبوية 1/323، 324.
2- ابن هشام: السيرة النبوية 2/191، والطبري: تاريخ الرسل والملوك 2/554، وابن كثير: السيرة النبوية 3/147.
3- ابن هشام: السيرة النبوية 2/214، والطبري: جامع البيان 20/218، وتاريخ الرسل والملوك، 2/565، وابن كثير: السيرة النبوية 3/182.
4- رواه أبو داود (3006)، وابن حبان (5199)، وقال شعيب الأرناءوط: إسناده صحيح. وحسنه الألباني، انظر: التعليقات الحسان 7/431، وانظر: الطبري: تاريخ الرسل والملوك، 8/281، وابن كثير: السيرة النبوية 3/377، وابن القيم: زاد المعاد 3/129، 3/289،290.
5- عن ابن عمر : أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قاتل أهل خيبر... فصالحوه على أن لرسول الله –صلى الله عليه وسلم- الصفراء والبيضاء... على أن لا يكتموا ولا يُغَيِّبُوا شيئًا؛ فإن فعلوا فلا ذمة لهم ولاعهد؛ فغَيَّبُوا مسكًا لحيي بن أخطب... فقال النبي –صلى الله عليه وسلم- لعم حيي: «أَيْنَ مَسْكُ حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ؟» قال: أذهبته الحروب والنفقات. فوجدوا المسك، فقتل ابن أبي الحقيق. رواه أبو داود (3006)، وابن حبان (5199)، وقال شعيب الأرناءوط: إسناده صحيح. وحسنه الألباني، انظر: التعليقات الحسان 7/431، وقال الشوكاني: فقتل النبي –صلى الله عليه وسلم- ابني أبي الحقيق -وهو رأس يهود خيبر-... إنما قتلهما لعدم وفائهم بما شرطه عليهم؛ لقوله في أول الحديث: «فَإِنْ فَعَلُوا فَلَا ذِمَّةَ لَهُمْ وَلَا عَهْدَ». انظر: نيل الأوطار 8/59.
6- البخاري: كتاب المغازي، باب معاملة النبي –صلى الله عليه وسلم- أهل خيبر (2571)، ومسلم: كتاب المساقاة، باب المساقاة والمعاملة بجزء من الثمر والزرع، (1551).
7- البخاري: كتاب الطب، باب ما يُذكر في سمِّ النبي –صلى الله عليه وسلم- (2998)، وأبو داود (4508)، وأحمد (9826).
8- بشر بن البراء بن معرور الأنصاري الخزرجي، شهد العقبة وبدرًا وأحدًا والخندق، ومات بخيبر حين افتتاحها سنة سبع من الهجرة، من تلك الأكلة التي أكلها مع رسول الله ﷺ، قيل: إنه لم يبرح من مكانه حين أكل منها حتى مات. انظر: ابن عبد البر: الاستيعاب 1/51، وابن الأثير: أسد الغابة 1/115، 116، وابن حجر: الإصابة، الترجمة رقم (654).
9- القاضي عياض: هو أبو الفضل عياض بن موسى بن عياض اليحصبي السبتي (476- 544هـ = 1083- 1149م)، كان إمام وقته في الحديث وعلومه والنحو واللغة وكلام العرب وأيامهم وأنسابهم. وَلِي قضاء سبتة، ومولده فيها، ثم قضاء غرناطة، وتوفي بمراكش. انظر: ابن خلكان: وفيات الأعيان 3/483-485، والزركلي: الأعلام 5/99.
10- انظر: النووي: المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج، 14/179.
11- الصفراء والبيضاء؛ أي: الذهب والفضة.
12- يُصرم النخل بالبناء للمجهول أي يقطع ثمرها.
13- الخَرْص: تقدير ما على النخيل من الثمار تخمينًا.
14- أبو داود: كتاب البيوع، باب في المساقاة (3410)، وابن ماجه (1820)، وابن حبان (5199)، وقال شعيب الأرناءوط: إسناده صحيح. والطبراني: المعجم الكبير (12091)، وحسنه الألباني، انظر: التعليقات الحسان على صحيح ابن حبان 7/431.
15- الموطأ - رواية يحيى الليثي (1388)، والبيهقي: السنن الكبرى (7229)، والطبراني: المعجم الكبير (426)، وصححه الألباني، انظر: غاية المرام في تخريج أحاديث الحلال والحرام ص264.
التعليقات
إرسال تعليقك